د. التيجاني عبد القادر حامد
رئيس السنغال يقبل يد شيخ الطريقة المريدية الراحل
مقدمة:
إن من أبرز سمات "الطريقة الصوفية" أنها تتمركز من حيث التنظيم في مؤسسها؛ كما أن من أبرز سمات الشخصية الصوفية "المؤسسة" الاعتقاد بأن لها صلة واصلة "بالنور المحمدي"، سواء كان ذلك عن طريق الرحم والدم، أم كان عن طريق الروح، أو عن طريقهما معا. ولذلك فقد صار من المألوف أن يكون "الشيخ المؤسس" منتميا إلى "الأشراف"؛ أي إلى إحدى العائلات العربية التي يتصل نسبها بقبيلة قريش، ومن ثم بالرسول (صلى الله عليه وسلم).
أما تمركز الأتباع حول الشيخ فيرجع إلى اعتقادهم بأنهم يستمدون قوة روحية عبره، وأنهم يشاركون من خلاله في البركة النبوية، وأنهم، بالتالي، ينالون رحمة وشفاعة في الآخرة، ومن أجل ذلك فهم يمنحون هذا الشيخ مطلق الولاء، ويثقون فيه ثقة بالغة، ويتبعون تعاليمه وإرشاداته، ويكونون على اتصال به حيثما أقاموا.
وقد يعطي المريد عهداً، قبل تسليكه في الطريقة، واضعاً يده على يد الشيخ. ويكون المريد الذي يأخذ العهد على يد الشيخ مباشرة أرفعَ مقاماً من الآخرين الذين يأخذون عهودهم بطريقة غير مباشرة. ولذلك فإن كل مريد يحافظ بدقة على السلسلة، أي على النظام الهرمي الذي يرتبط عبره بالشيخ المؤسس.
ومن الطبيعي أن الشيخ قد لا يستطيع أن يقوم بكل الوظائف ذات الطبيعة التنفيذية التي تتطلبها الطريقة، مما يضطره أن ينصب أحد أكابر أتباعه أو أبنائه خليفة له. ولذلك نلاحظ أن "الخلفاء" في معظم الطرق الصوفية الإفريقية كانوا بالأصل شيوخاً وزعماء لقبائلهم وعشائرهم، مما يعنى أن الطريقة الصوفية "الأممية" التي أدخلها زهاد سائحون، قد قام شيوخ محليون أفارقة بتوطينها وتأطيرها في فروع قبائلهم، جامعين بذلك بين السلطة الزمنية والروحية، وبين الطريقة والقبيلة.
القادرية والختمية:
وهناك بالطبع دراسات عديدة تؤكد هذه الظاهرة، مثل الدراسات التي أجراها (I.M.Lewis) عن التداخل القبلي/الصوفي في الصومال، والدراسات الأخرى التي أجراها (Knut S.Vikor) وغيره عن الطريقة السنوسية في ليبيا، ودراسات عديدة عن التيجانية في غرب إفريقيا، ولا نستطيع بالطبع أن نستقصي كل هذه الحالات في هذا المقال، وإنما نكتفي بإشارات سريعة إلى تجربة الطريقة القادرية والختمية في السودان، باعتبارها حالات قابلة للتعميم على كثير من الحالات الإفريقية.
مولد الشيخ أبرز مبادئ الخطاب الصوفي
يذكر المؤرخون أن الشيخ تاج الدين البهاري، الشيخ الذي أسس الطريقة القادرية في السودان، قد أدخل فيها خمس زعامات قبلية، أخذت على عاتقها من بعدُ مهمة تأسيس نفوذ الطريقة وتعزيزه في أواخر القرن السادس عشر الميلادي. وتلك الشخصيات هي: عجيب الكبير، ومحمد الهميم، وبان النقا الضرير، وحجازي من آر بي جي، وشاع الدين ود التويم - الجد الأعلى لقبيلة الشكرية. وقد عين البهاري على رأس هؤلاء محمد الهميم ليكون خليفة له في السودان.
"أنا جيت من بغداد" -يقول البهاري- "لأجل هذا الولد. خلفته في مكاني، مثل ما بتعاينوا لي عاينوا له". ويضيف إلى ذلك ود ضيف الله معّلقاً: "وأدّاه الأسماء والصفات ومعرفة دخول الخلوات والرياضة".
كان والد محمد الهميم هذا من عائلة ركابيّة ويسمى عبد الصادق، ولكن أحفاده الذين نشئوا بين قبيلة الشكرية في أرض البطانة صاروا يعرفون أنفسهم بالصادقاب، وليس الركابية، وفي ذلك دلالة على إعلاء العشيرة ذات الارتباط العضوي بالطريقة. أما بانقا الضرير، الرجل الثاني في المجموعة، فقد كان من قبيلة الجعليين، ويخالطه دم من الفونج من ناحية أمه. وقد تعهد ابنَه يعقوب بالرعاية وسلكه في الطريقة، ومنحه منصباً رفيعاً هو منصب الخليفة، فصار يعقوب بذلك أباً لأفراد عائلته (اليعقوباب) من ناحية الرحم والطريقة معاً. ومثل هذا يمكن أن يقال أيضاً عن عجيب الكبير، شيخ قبيلة العبدلاب، وعن شاع الدين ود التويم، جد قبيلة الشكرية، فكلاهما كان شيخاً للطريقة وللقبيلة معاً.
وهكذا نرى أن النظام القبلي صار بنية تحتية، وشبكة تنتشر من خلالها الطريقة القادرية طولاً وعرضاً. والطريقة، على عكس القبيلة، تضم وتستوعب عضوية ذات أصول عرقية متنوعة. ومما يؤكد هذا أننا نقرأ في "طبقات" ود ضيف الله، المؤرخ الأساسي للتراث الصوفي في السودان، أن "فلاناً" من قبيلة الكواهلة قد أُُعْطِي العهدَ من قبل "فلان" الفزاري، الذي أخذه هو الآخر عن "فلان" الجعلي.
إن حركة التقاطع القبلي هذه لا يمكن بالطبع أن تكون هي السائدة في نطاق القيادة العليا في الطريقة؛ إذ إنه من النادر أن يرقى الدخيل إلى مقام الخليفة. فالقيادة تنحصر عادةً في أبناء العشيرة، ولكن حتى بين هؤلاء قد تقع نزاعات داخلية تؤدي إلى انقسام في الطريقة.
ويبدو هذا الأمر جليًّا في حالة الصادقاب/ اليعقوباب؛ إذ بالرغم من أن محمداً الهميم (والد الصادقاب) قد عُيِّن خليفةً من قبل الشيخ البهاري شخصيًّا، إلا أنه لم يستطع أن يبسط نفوذه الروحي على اليعقوباب؛ إذ استطاع هؤلاء تحت القيادة الوراثية التقليدية ليعقوب وابنه أن يؤسسوا فرعاً مستقلاَّ للطريقة القادرية. ويلاحظ أن بعض هذه الزعامات القبلية التقليدية كانت قادرة ليس فقط على الحفاظ على استقلالها في إطار الطريقة، وإنما كانت تتجرأ في بعض الأحيان، على الانشقاق والخروج على الطريقة وتحويل ولائها لطريقة أخرى.
هذا، ولقد اتجهت الطريقة "الختمية" أيضاً، مثلها في ذلك مثل كل الطرق الأخرى، نحو الاندماج في البنية القبلية، وذلك بالرغم من "الحداثة" الإدارية النسبية التي كانت تمتاز بها، وبالرغم من الوضوح النظري للبنية السلطوية فيها.
فقد استطاعت الطريقة الختمية في ظل قيادة العائلة الميرغنية، أن تعزز نفوذها على قطاع واسع من فروع القبائل في شمال السودان وشرقه وغربه، وذلك من خلال المصاهرة مع المجتمعات القبلية المحلية، والاتصال بشيوخ القرآن والأسر الدينية وزعماء القبائل. ووفقاً لهذا، فقد صار بعض زعماء القبائل، مثل صالح سوار الذهب البديري الدهمشي، وكلاءَ وخلفاءَ بارزين في الطريقة الختمية.
التقاطع بين الطريقة والقبيلة:
إن ظاهرة إدراج الطريقة أو دمجها في البنية القبلية بالصورة المشار إليها يطرح عدداً من القضايا ذات الأهمية، تأتي على رأسها مسألة القيادة متعددة الوجوه التي يتمتع بها شيخ الطريقة الذي صار بؤرة تلتقي فيها الطريقة والقبيلة والحكومة. فهو يستطيع من جهة أن يتصل بالسلطان مباشرة، وأن يؤثر في بعض قراراته، كما يمكنه من جهة أخرى أن يجعل زعماء القبائل يمنحون تأييدهم للسلطان، ويطيعون عماله أو يتجاوزون صراعاتهم الداخلية. ولكي نعطي مثالاً تطبيقيًّا لهذه الصورة يمكننا أن نذكر في هذا المقام واقعةً أوردها ود ضيف الله عن الشيخ إدريس ود الأرباب الذي يمثل بجدارة نموذج القيادة الصوفية في السودان. يقول ود ضيف الله:
"ومن ورع الشيخ أن بادي بن رباط ملك سنار جمع كبار الفونج مثل شوال ولد أنفله، ونفى شيخ حوش داره، وقال لهم: الشيخ إدريس شيخي وأبوي،، داري من العسل إلى البصل بقسمها له النصف. فامتنع الشيخ وقال لهم: هذه الدار دار النوبة، وأنتم غصبتموها منهم، أنا ما بقبلها. الرسول -صلي الله عليه وسلم- قال: "من سرق شبراً من الأرض طوقه الله يوم القيامة به من سبع أرضين". وقال لهم أعطوني الحجز في كل شيء. والملك أعطاه الحجز في كل شيء كما طلبه. ثم إن الشيخ دخل سنار واحد وسبعين مرة في مصالح المسلمين".
وتبرز من قراءة هذا النص عدة نقاط، أولاها: أن الملك صار يرى نفسه "حُوّاراً" (مريدا) للشيخ، وهذا تطور لا ينحصر فيما يبدو في الملك بادي؛ إذ كان هناك سلاطين آخرون ووزراء صاروا حيراناً (مريدين) لشيوخ الصوفية. لقد ذكر ود ضيف الله، وهو يكتب عن الشيخ داود بن محمد بن شيخ حمدان، أنه قد "اعتقدت فيه سلاطين زمانه، وخصوصاً الشيخ محمد أبو لكيلك، وقد كان يشاوره في جميع أموره".
أما النقطة الثانية التي تبرز من قراءة النص فهي أن الشيخ، بعد أن لقي خضوعاً من السلطان، أراد أن ينبهه إلى الأفعال الظالمة التي تقع منه على أفراد الشعب، فيقول له: "هذه الدار دار النوبة، وأنتم غصبتموها منهم". وينبغي أن نلاحظ هنا أن الشيخ إدريس نفسه ينتمي إلى مجموعة النوبة، مما يعني أنه كان في تلك الحادثة يتحدث باعتباره زعيماً للقبيلة وشيخاً للطريقة في آن واحد.
والنقطة الثالثة التي يمكن إبرازها من حكاية الشيخ إدريس والملك بادي هي أن الشيخ طلب أن يكون مركز الالتقاء بين أتباعه وزعماء القبائل والسلطان، وهي الوظيفة التي أشار إليها بلفظ "الحجز" أو الحُجاز، أي الذي يعني تسوية النزاعات بالطرق السياسية. وقد وافق الملك على ذلك الطلب.
ولكي يقوموا بمهمة "الوسيط" هذا، كان عدد كبير من القيادات الصوفية يذهب بصورة منتظمة إلى العاصمة السياسية ليتخذ له موقعاً في مجلس الأصحاب بقصر السلطان. ولقد قرأنا في النص السابق أن الشيخ إدريس قد ذهب إلى سنار إحدى وسبعين مرة. وفي مجلس السلطان يختلط شيخ الطريقة مع الفقهاء الذي يعملون بالقصر كُتاباً وأئمة وقضاة، كما يلتقي بالتجار وببعض أعضاء الأسرة الحاكمة ذات النفوذ.
وهكذا، فمن الممكن أن يكتسب مثل هؤلاء الشيوخ مزيداً من النفوذ السياسي لوجودهم في مجلس السلطان. ولقد كان السلطان بالفعل يمنح بعضهم مساحات من الأرض في مناطق أتباعهم، لا سيما وأنهم لا يملكون في الأصل مواقع إقليمية مثل شيوخ القبائل. فنشأت بذلك منطقة نفوذ خاصة بشيخ الطريقة تسمى "الزريبة"، يعمرها الحيران والمريدون وأصحاب الحاجات. يقول ود ضيف الله، مشيراً إلى هذه الظاهرة، إن الشيخ أبو دليق كان من الزرائب السبعة الذين جوَّهَهم (أي قلدهم رئاسة تشريفية) الشيخ عجيب.
إن إقامة تلك الزرائب وتقوية نفوذ شيوخها وتعزيزه، قاد فيما بعد إلى تطورات خطيرة في طبيعة الطرق الصوفية في السودان. لقد صارت الطريقةُ دائرة نفوذ، فهي تضم علاوة على زهاد "الحيران" الذين يبحثون عن الهدي الديني، أفراداً ومجموعات يهدون إلى الشيخ الذهب والنعم، ويتوقعون منه في مقابل ذلك نوعاً من الحماية بطريقة أو بأخرى. لقد ذكر ود ضيف الله أن ناساً يأتون إلى الشيخ إدريس من منطقة البحر الأحمر يحملون معهم العسل والثياب والرقيق والجمال، حتى ضاقت قرية الشيخ "بالجلابة"، أي التجار، مما يضطر مجموعات كثيرة أن تعسكر خارج حدود القرية، مما يشير إلى أن النفوذ السياسي والاقتصادي لبعض شيوخ المتصوفة قد بلغ شأناً عظيماً، فضلاً عمّا بلغوه من زعامة روحية، أو لعله بسبب ذلك. ولقد كان نفوذ بعضهم يضارع نفوذ السلاطين؛ إذ تلاحظ أن شيخ الطريقة بعد أن فرغ من تأسيس قيادته الروحية صار يجمع الثروة، ويحشد الأتباع، ويزاحم السلاطين والملوك. ومن الطبيعي أنه حينما يُتَوفَّى مثل هذا الشيخ فإن أقرباءه يرثونه، وقد يتصارعون أحياناً على بركته وثروته.
ومن الطبيعي كذلك أن تتحول الزريبة، التي تضم رفاة الشيخ وضريحه، إلى إقطاعية تجذب الزوار وتعزز النفوذ. إنه عند هذا المنعطف تتحول الطريقة، كما يبدو، إلى شيء آخر، إلى طائفة.
الأيديولوجيا الطائفية:
يختلف معنى "طائفة" باختلاف الإطار الثقافي الذي يستخدم فيه، وإذا كان لنا أن نتطوع بإعطاء تعريف لمعناها في الإطار الصوفي-القبلي فإننا نقول: إن "الطائفة" هي جماعة دينية تستند على إرثٍ روحيٍ عائليٍ، وتسعى عن طريق توظيف واستثمار ذلك الميراث الديني، لتعزز نفوذها ومشروعيتها داخل المجتمع.
أما "الطائفية" فهي وصف لما ينبثق من نمطٍ تصوري وسلوكيٍّ من "الطائفة"، وقد يتطور عبر التاريخ الاجتماعي ليصير ثقافةً سياسية. و"الطائفية" على هذا النحو تشتمل على خليط من القيم الإسلامية والقبلية محمولة على أطر عشائرية، فضلاً عن المعارف العملية المستفادة من التجارب الحياتية المحلية أو الموروثة من الأسلاف.
ووفقاً لهذا التعريف، تُستدعى السلطة في الإطار الطائفي وتُمارس وفقاً للروابط العائلية التي تصل أعضاء الأسرة الحاكمة بالزعيم الروحي المؤسس. فالطائفية، من الناحية البنيوية، هي مركب العائلة والطريقة، ومن ثم فهي تتجسد كما رأينا سابقاً في فروع قبلية متشابكة تعمل بوصفها بنيةً تحتية للطريقة؛ ولأن النسب القبلي صار إطاراً أساسيًّا للهوية الاجتماعية، فقد تجد الكل يلتصق به بطريقة طقوسية، كما تجد الجميع يحافظون على نسبهم عبر تاريخ طويل من الصراع والتشتت. أما الطريقة، من الناحية الأخرى، فهي وسيط متجاوز للقبيلة، يسعى شيخُ الطائفة من خلاله ليظهر شخصه موضِعاً للقداسة ومصدراً للسلطة، وذلك بتأكيده لنسبه الشريف، وبإظهاره لبعض القدرات الخارقة أو الكرامات.
أما إذا نمتْ للشيخ شهية للسلطة السياسية والازدهار الاقتصادي، وكثيراً ما يحدث ذلك، فإنه يكوِّن جهازاً إداريًّا دنيويًّا غير رسمي، أو يكوِّن مجلساً من المستشارين ذوي الخبرة، أو قد يكوِّن حزباً سياسيًّا. وبالطبع فإنه يكون في مقدور الشيخ أن يدير، من خلال هذه الأطر الوسيطة، أعماله التجارية وينمي ثرواته ويسيطر، ولو بطريقة غير مباشرة، على الحكومة في عهده. وعندما يُتوفى الشيخ فإن أبناءه وعشيرته سيكونون الوارثين الشرعيين له، بغض النظر عمَّا إذا كانوا من ذوي الأهلية الدينية أم لم يكونوا.
ولكن ينبغي أن نلاحظ هنا كيف أن الطريقة التي استطاعت أن تخترق التنوع العرقي في المجتمع الإفريقي، وتحوله إلى كيان متجانس نسبيًّا، قد يضمر في بعض الأحيان محتواها الديني، فتنحل وتتلاشى في الفروع القبلية والمجموعات العشائرية. وإذا وقع مثل هذا "التحلل" فسوف لن يمر دون معارضة؛ بل وقد يؤدي في بعض الأحيان إلى "انشقاق" كبير بين علماء الدين وأتباع الطريقة/القبيلة، فتبرز نتيجة لذلك مجموعات "إصلاحية" تضم الفقهاء والقراء والمتصوفة التطهريين، لتحتج على تجاوزات المتصوفة/القبليين، وتنتقد "كراماتهم" وتخليطهم. وقد تذهب هذه الجموعات الاحتجاجية إلى مرحلة تكون فيها طرقا صوفية "إصلاحية" جديدة، وذلك كما يتبدى في حالة الطريقة الشاذلية والتيجانية والسمانية والمجذوبية؛ إذ حرك شيوخ هذه الطرق الجديدة عملية إحياء وإصلاح داخلي، وذلك بفضل اتصالهم بالمراكز الثقافية الكبرى بمصر والحجاز.
الصوفية والحداثة:
على أن محاولات الإحياء والإصلاح الذاتي التي تقوم بها بعض الطرق الصوفية لم تترك لتبلغ مداها؛ إذ سرعان ما ظهرت من الناحية الأخرى المؤسسات التعليمية والسياسية والاقتصادية "الحديثة"، والتي لا يُتوقع منها أن تبدي تعاطفاً مع المتصوفة، أو تشعر بحاجة إلى كراماتهم، أو تمنح هباتٍ لمؤسساتهم.
ليس ذلك فحسب، وإنما صار أصحاب الحداثة: الليبراليون والماركسيون والإسلاميون، يتنبئون على اختلاف مشاربهم، بنهاية التكوينات الصوفية والقبلية السابقة للحداثة. كانوا يعتقدون أن الاهتمام في المجتمعات "الحديثة" سينصب أساسا على "الكفاءة والإنجاز"، وسيتضاءل أو ينعدم تماما دور "الأنساب" والعشائر في الحراك الاجتماعي، وستكون للفرد قيمة اجتماعية أصالة عن نفسه، نابعة من إنجازه لهذا العمل أو ذاك، لا من انتمائه لهذا الجنس أو لتلك القبيلة. ويعود ذلك في تقديرهم للنظام التعليمي العام، ولسيادة قيم السّوق، ولتعمق وسائل الاتصال والتي ستعمل جميعها على تفكيك المجتمعات القديمة، وإعادة صهرها في المجتمع الحديث.
أما الماركسيون فكانوا يقدرون من جانبهم أن التكوينات الإثنية بلهجاتها المغلقة، واعتقاداتها التقليدية، سوف يتم تجاوزها تماما في المجتمعات "الحديثة"، وسوف تحل مكانها التصنيفات "الطبقية"، إذ إن الناس في الظروف الاقتصادية الحديثة سيكونون أكثر "رشادة" وعقلانية، وستكون المصلحة الاقتصادية (وليس الانتماء القبلي/الصوفي) هي التي تغذى الحراك الاجتماعي.
أما الإسلاميون فقد كانوا يتوقعون أيضا (برغم اختلافاتهم مع الليبراليين والماركسيين) أنه كلما زاد الوعي العام والالتزام الديني، كلما انخرط الجمهور في التيار الإسلامي العام، بحيث تتقلص ولاءاته القبلية ويصير جزءًا من "الأمة" الإسلامية الواحدة.
غير أن الواقع الإفريقي المشاهد، من الساحل الشرقي إلى الساحل الغربي، لا يؤكد بطلان هذه التنبؤات فحسب، وإنما يؤكد أن نقيضها هو الصحيح؛ أي أننا بدلا عن أن نشهد تراجعا في الانتماءات القبلية والصوفية، صرنا نرى تناميا متزايدا في التضامن القبلي/الصوفي، وفى الارتباط بالتكوينات الاجتماعية التقليدية السابقة للحداثة. بل والأغرب من ذلك أن "المصلحة الاقتصادية" التي كان يتوقع لها أن تقضى على التماسك القبلي، أو أن تعيد ترتيبه على أساس "طبقي" كما يحلم الماركسيون، صارت هي ذاتها ناتجًا من نواتج التجمعات القبلية، فصار كثير من أفراد النخب الحديثة، من حملة الشهادات المهنية، يتوصلون إلى مصالحهم الاقتصادية من خلال شبكة علاقاتهم القبلية/الصوفية.
ثم والأكثر غرابة من هذه الأمور جميعا أننا صرنا نرى نفرا من السياسيين المحترفين (ليبراليين وماركسيين وإسلاميين) يتخلون عن أحزابهم السياسية، كما يتخلون عن نماذج "الرشادة" و"الطبقة" و"الأمة" التي كانوا يبشرون بها ليصيروا "قادة" لقبائلهم في الصومال، وكينيا، ودارفور (مع استبدال بعض الألفاظ القديمة كالقبيلة والسلطان والشرتاية والعمدة بأخرى حديثة، مثل قولهم: الفصيل الثوري والقائد الميداني، والرئيس والناطق الرسمي). ألا يجعلنا هذا نقول: إن انبثاق الكيانات التقليدية في القارة الإفريقية، وتصدرها الواجهة السياسية لم يعد مجرد مشكلة أمنية أو سياسية، ولكنه قد صار مشكلة معرفية، وأن حلها قد لا يتحقق من خلال النماذج القديمة، وإنما يحتاج الأمر إلى تغيير في النموذج المعرفي
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment